سورة التوبة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


قلت: {أم}: منقطعة، بمعنى الهمزة؛ للإنكار والتوبيخ على الحسبان، والخطاب للمؤمنين أو المنافقين، والوليجة: البطانة والصحبة.
يقول الحق جل جلاله: {أم حسبتم} أي: أظننتم {أن تُتْركُوا} من غير اختبار، {ولمَّا يعلمِ الله الذين جاهدُوا منكم} أي: ولم يتبين الخلَّص منكم، وهم الذين جاهدوا، من غيرهم، والمراد: علمَ ظهور، أي: أظننتم أن تتركوا ولم يظهر منكم المجاهد من غيره، قال البيضاوي: نفى العلم، وأراد نفي المعلوم؛ للمبالغة، فإنه كالبرهان عليه من حيث إن تعلق العلم به مستلزم لوقوعه. اهـ. بل يختبركم حتى يظهر الذين جاهدوا منكم.
{ولم يتخِذوا من دون الله ولا رسولِه ولا المؤمنين وَليجَةً}؛ بطانة، أي: جاهدوا وأفردوا محبتهم لله ولرسوله وللمؤمنين، ولم يتخذوا من دونهم بطانة، أي أصحاب سرٍ يوالونهم ويبثون إليهم أسرارهم، بل اكتفوا بمحبة الله ومودة رسول الله والمؤمنين، دون موالاة من عاداهم، والتعبير ب (لما): يقتضي أن ظهورَ ذلك متوقع، {واللَّهُ خبيرٌ بما تعملون}: تهديد لمن يفعل ذلك.
الإشارة: إفراد المحبة لله ولأولياء الله من أعظم القربات إلى الله، وأقرب الأمور الموصلة إلى حضرة الله، والالتفات إلى أهل الغفلة؛ بالصحبة والمودة، من أعظم الآفات والأسباب المبعدة عن اللهِ، والعياذ بالله. وفي الحديث: «المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيله» و «المَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ» و «مَنْ أَحَبْ قَوْماً حُشِرَ مَعَهم» إلى غير ذلك من الآثار في هذا المعنى.


يقول الحق جل جلاله: {ما كان للمشركين} أي: ما صح لهم {أن يعمرُوا مساجدَ الله} أي: شيئاً من المساجد، فضلاً عن المسجد الحرام، وقيل: هو المراد، وإنما جمع؛ لأنه قبلة المساجد وإمامها، فأمره كأمرها، ويدل عليه قراءة من قرأ بالتوحيد، أي: ليس لهم ذلك، وإن كانوا قد عمروه تغلباً وظلماً، حال كونهم {شاهدين على أنفسهم بالكفر}؛ بإظهار الشرك وتكذيب الرسول، أي: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متباينين: عمارة بيت الله، وعبادة غير الله، {أولئك حَبِطَتْ أعمالُهم} في الدنيا والآخرة؛ لما قارنها من الشرك والافتخار بها، {وفي النار هم خالدون}؛ لأجل كفرهم.
{إنما يَعْمُرُ مساجدَ الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة}، أي: إنما تستقيم عمارتها بهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية، ومن عمارتها: تزيينها بالفرش، وتنويرها بالسرج، وإدامة العبادة والذكر ودروس العلم فيها، وصيانتها مما لم تبن له؛ كحديث الدنيا.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: «إِنَّ بُيُوتِي في أَرْضِي المَسَاجدُ وإنَّ زُوَّاري فيهَا عُمَّارُهَا، فَطُوبى لعَبْدٍ تَطَهَّرَ في بَيْتِهِ، ثُمَّ زَارَني في بَيْتِي، فَحَقٌ عَلَى المَزُوِر أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَه» ووقف عبد الله بن مسعود على جماعة في المسجد يتذاكرون العلم فقال: بأبي وأمي العلماء، بروح الله ائتلفتم، وكتاب الله تلوتم، ومسجد الله عمرتم، ورحمة الله انتظرتم، أحبكم الله، وأحب من أحبكم. اهـ.
وإنما لم يذكر الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لما علم أن الإيمان بالله قرينُه وتمامه الإيمانُ به، ولدلالة قوله: «وأقام الصلاة وآتى الزكاة» عليه. قال البيضاوي.
{ولم يخش} في أموره كلها {إلا الله}، فهذا الذي يصلح لعمارة بيت الله، {فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}، وعبَّر بعسى، قطعاً لأطماع المشركين في الاهتداء والانتفاع بأعمالهم، وتوبيخاً لهم على القطع بأنهم مهتدون؛ فإن كان اهتداء هؤلاء، مع كمالهم، ودائراً بين عسى ولعل، فما ظنك بأضدادهم؟، ومنعاً للمؤمنين أن يغتروا بأحوالهم فيتكلوا عليها. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَتَعَاهَدُ المسجِد فاشهدوا لَهُ بالإيمان» ثم تلا الآية.
الإشارة: مساجد الحضرة محرمة على أهل الشرك الخفي والجلي، لا يدخل الحضرة إلا قلب مفرد، فيه توحيد مجرد، لا يعمر مساجد الحضرة ألا قلب مطمئن بالله، غائب عما سواه، قد رفض الركون إلى الأسباب، وأفراد الوجهة لمسبب الأسباب، قطع الشواغل والعلائق حتى أشرقت أنوار الحقائق. وإنما يعمر مساجد حضرة القدوس من آمن بالله واليوم الآخر، وأقام صلاة القلوب، وآتى زكاة النفوس، ولم يراقب أحداً من المخلوقين، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين إلى حضرة رب العالمين.


قلت: السقاية والعمارة: مصدران، فلا يشبهان بالجثة، فلا بد من حذف، أي: أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن، أو جعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن.
يقول الحق جل جلاله: {أجعلتُم} أهل {سِقَايةَ الحاجِّ و} أهل {عمارة المسجدِ الحرام} من أهل الشرك المحبطة أعمالُهم، {كمن آمن باللَّهِ واليوم الآخر} من أهل الإيمان، {وجاهَد في سبيل الله}؛ لإعلاء كلمة الله، المثبتة أعمالهم، بل {لا يستوون عند الله} أبداً؛ لأن أهل الشرك الذين حبطت أعمالهم في أسفل سافلين، إن لم يتوبوا، وأهل الإيمان والجهاد في أعلى عليين.
ونزلت الآية في علي كرم الله وجهه والعباس وطلحة بن شيبة، افتخروا، فقال طلحة: أنا صاحب البيت، وعندي مفاتحه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية، وقال علي رضي الله عنه: لقد أسلمت وجاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيَّن الله تعالى أن الإيمان والجهاد أفضل، ووبخ من افتخر بغير ذلك فقال: {والله لا يهدي القوم الظالمين} أي: الكفرة الذين ظلموا أنفسهم بالشرك، ومعاداة الرسول صلى الله عليه وسلم، وداموا على ذلك، وقيل: المراد بالظالمين: الذين يسوون بينهم وبين المؤمنين.
ثم أكد بقوله: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظمُ درجةً}، وأعلى رتبة، وأكثر كرامة، {عند الله}، ممن لم يستجمع هذه الصفات، أو من أهل السقاية والعمارة عندكم، {وأولئك هم الفائزون} بكل خير، الظافرون بنيل الحسنى والزلفى عند الله، دون من عداهم ممن لم يفعل ذلك.
ثم زاد في كرامتهم فقال: {يُبشرهم ربُّهم برحمةٍ منه} أي: تقريب، وعطف منه {ورضوان وجنات لهم فيها} أي: في الجنان {نعيم مقيم}؛ دائم، لا نفاد له ولا انقطاع. وتنكير المبشر به؛ إشعار بأنه وراء التعيين والتعريف، حال كونهم {خالدين فيها أبداً}، أكد الخلود بالتأبيد؛ لأنه قد يطلق على طُول المكث، {إن الله عنده أجر عظيم} يُستحقر دونه مشاق الأعمال المستوجبة له، أو نعيم الدنيا؛ إذ لا قدر له في جانب نعم الآخرة.
الإشارة: لا يستوي من قعد في وطنه مع عوائده وأسبابه، راكناً إلى عشائره وأحبابه، واقفاً مع هواه، غافلاً عن السير إلى مولاه، مع من هاجر وطنَه وأحبابَه، وخرق عوائده هو أسبابَه، وجاهد نفسه وهواه، سائراً إلى حضرة مولاه، لا يستوون أبداً عند الله؛ لأن هؤلاء مقربون عند الله، والآخرون في محل البعد عن الله، ولو كثر علمهم وعملهم عند الله، شتان بين من همته القصور والحور، وبين من همته الحضور ورفع الستور، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان، وجنات المعارف لهم فيها نعيم لأرواحهم، وهو الشهود والعيان، لا يحجب عنهم طرفة عين، إن الله عنده إجر عظيم، لا يخطر على قلب بشر لا حرمنا الله من ذلك.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8